محل النية
من محمد زمراني
محلها القلب في كل موضع لأن حقيقتها القصد مطلقا وقيل المقارن للفعل وذلك عبارة عن فعل القلب قال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه والحاصل أن هنا أصلين الأول أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه والثاني أنه لا يشترط مع القلب التلفظ أما الأول فمن فروعه لو اختلف اللسان والقلب فالعبرة بما في القلب فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد صح الوضوء أو عكسه فلا وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو عكسه صح له ما في القلب ومنها إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد فلا تنعقد ولا يتعلق به كفارة أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره هذا في الحلف بالله فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق لم يتعلق به شيء باطنا ويدين ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به وذكر الإمام في الفرق أن العادة جرت بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد بخلاف الطلاق والعتاق فدعواه فيهما تخالف الظاهر فلا يقبل قال وكذا لو اقترن باليمين ما يدل على القصد وفي البحر أن الشافعي نص في البويطي على أن من صرح بالطلاق أو الظهار أو العتاق ولم يكن له نية لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق ومنها أن يقصد لفظ الطلاق أو العتق دون معناه الشرعي بل يقصد معنى له آخر أو يقصد ضم شيء إليه برفع حكمه وفيه فروع بعضها يقبل فيه وبعضها لا وكلها لا تقتضي الوقوع في نفس الأمر لفقد القصد القلبي قال الفوراني في الإبانة الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه فإذا نواه قبل فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم وقال نحوه القاضي حسين والبغوي والإمام في النهاية وغيرهم وهذه أمثلته قال أنت طالق ثم قال أردت من وثاق ولا قرينة لم يقبل في الحكم ويدين فإن كان قرينة كأن كانت مربوطة فحلها وقال ذلك قبل ظاهرا مر بعبد له على مكاس فطالبه بمكسه فقال إنه حر وليس بعبد وقصد التخلص لا العتق لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى كذا في فتاوي الغزالي قال الرافعي وهو يشير إلى أنه لا يقبل ظاهرا قال في المهمات وقياس مسألة الوثاق أن يقبل لأن مطالبة المكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره ورد بأنه ليس قرينة دالة على ذلك وإنما نظير مسألة الوثاق أن يقال له أمتك بغي فيقول بل حرة فهو قرينة ظاهرة على إرادة العفة لا العتق انتهى زاحمته امرأة فقال تأخري يا حرة وكانت أمته وهو لا يشعر أفتى الغزالي بأنها لا تعتق قال الرافعي فإن أراده في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري من يخاطب هاهنا وعنده أنه يخاطب غير أمته وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح وفي البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا فلم يعطوه فقال متضجرا منهم طلقتكم ثلاثا وكانت زوجته فيهم وهو لا يعلم فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق قال الغزالي وفي القلب منه شيء قال الرافعي ولك أن تقول ينبغي أن لا تطلق لأن قوله طلقتكم لفظ عام وهو يقبل الاستثناء بالنية كما لو حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه لم يحنث وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها وقال النووي ما قاله الإمام والرافعي عجيب أما العجب من الرافعي فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد لأنه هناك علم به واستثناه وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها واللفظ يقتضي الجميع إلا ما أخرجه ولم يخرجها وأما العجب من الإمام فلأن الشرط قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق ولا يكفي قصد لفظ من غير قصد معناه ومعلوم أن الواعظ لم يقصد معنى الطلاق فينبغي أن لا تطلق لذلك لما ذكره الرافعي قال في المهمات ونظير ذلك ما حكيناه عن الغزالي في مسألة تأخري يا حرة أنها لا تعتق وقال البلقيني فتح الله بتخريجين آخرين يقتضيان عدم وقوع الطلاق أحدهما أن يخرج ذلك على من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم وهو لا يعلم أنه فيهم والمذهب أنه لا يحنث وهذه غير مسألة الرافعي التي قاس عليها فإنه هناك علم واستثني وهنا لم يعلم أصلا الثاني أن الطلاق لغة الهجر وشرعا حل قيد النكاح بوجه مخصوص ولا يمكن حمل كلام الواعظ على المشترك لأنه هنا متعذر لأن شرط حمل المشترك على معنييه أن لا يتضادا فتعينت اللغوية وهو لا يفيد إيقاع الطلاق على زوجته بل لو صرح فقال طلقتكم وزوجتي لم يقع الطلاق عليها كما قالوه في نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة من جهة أنه عطف على نسوة لم تطلق انتهى قال يا طالق وهو اسمها ولم يقصد الطلاق لم تطلق وكذا لو كان اسمها طارقا أو طالبا وقال قصدت النداء فالتف الحرف قال أنت طالق ثم قال أردت إن شاء زيد أو إن دخلت لدار دين ولم يقبل ظاهرا قال كل امرأة لي طالق وقال أردت غير فلانة دين ولم يقبل ظاهرا إلا لقرينة بأن خاصمته وقالت تزوجت فقال ذلك وقال أردت غير المخاصمة ولو وقع ذلك في اليمين قبل مطلقا كأن يحلف لا يكلم أحدا ويريد زيدا أو لا يأكل طعاما ويريد شيئا معينا قال أنت طالق ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها دين قال طلقتك ثم قال أردت طلبتك دين قال أنت طالق إن كلمت زيدا ثم قال أردت إن كلمته شهرا قال الإمام نص الشافعي أنه لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر فلو كان في الحلف بالله قبل ظاهرا أيضا قال أنت طالق ثلاثا للسنة وقال نويت تفريقها على الأقراء دين ولم يقبل ظاهرا لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إلا لقرينة بأن كان يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد ولو لم يقل للسنة ففي المنهاج أنه كما لو قال والذي في الشرحين والمحرر أنه لا يقبل مطلقا ولا من يعتقد التحريم قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق وقال أردت الأجنبية قبل بخلاف ما لو قال عمرة طالق وهو اسم امرأته وقال أردت أجنبة فإنه يدين ولا يقبل تتمة استثنى مواضع يكتفى فيها باللفظ على رأي ضعيف منها الزكاة ففي وجه أو قول يكفي نيتها لفظا واستدل بأنها تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته وتجوز النيابة فيها ولو كانت نية القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها لأن النيات سر العبادات والإخلاص فيها قال ولا يرد على ذلك الحج حيث تجري فيه النيابة وتشترط فيه نية القلب لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهلها كالعبد والكافر ومنها إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو ففي قول إنه ينعقد ويلزمه ما سمى لأنه التزمه بالتسمية وعلى هذا لو لبى مطلقا انعقد الإحرام مطلقا ومنها إذا أحرم مطلقا ففي وجه يصح صرفه إلى الحج والعمرة باللفظ والأصح في الكل أنه لا أثر للفظ وأما الأصل الثاني وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه ففيه فروع كثيرة منها كل العبادات ومنها إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا فإنها تصير مسجدا بمجرد النية ولا يحتاج إلى لفظ ومنها من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بالنية فإنه لا يحنث بخلاف من حلف لا يدخل عليه فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه وقصد الدخول على غيره فإنه يحنث في الأصح والفرق أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء ولا ينتظم أن يقول دخلت عليكم إلا على فلان ويصح أن يقال سلمت عليكم إلا على فلان وخرج عن هذا الأصل صور بعضها على رأي ضعيف منها الإحرام ففي وجه أو قول أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي وفي آخر يشترط التلبية أو سوق الهدي وتقليده وفي آخر أن التلبية واجبة لا شرط لللانعقاد فعليه دم والأصح أنها لا شرط ولا واجبة فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء ومنها لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ لم ينعقد النذر ولا يقع الطلاق ومنها اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ ومنها باع بألف وفي البلد نقود لا غالب فيها فقبل ونويا نوعا لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا وفي نظيره من الخلع يصح في الأصح لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع وفي نظيره من النكاح لو قال من له بنات زوجتك بنتي ونويا واحدة صح على الأصح ومنها لو قال أنت طالق ثم قال أردت إن شاء الله تعالى لم يقبل قال الرافعي والمشهور أنه لا يدين أيضا بخلاف ما إذا قال أردت إن دخلت أو إن شاء زيد فإنه يدين وإن لم يقبل ظاهرا قال والفرق بين إن شاء الله وبين سائر صور التعليق أن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة فلا بد فيه من اللفظ والتعليق بالدخول ونحوه لا يرفعه جملة بل يخصصه بحال دون حال ومنها من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم لقوله إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ووقع في فتاوي قاضي القضاة تقي الدين بن رزين أن الإنسان إذا عزم على معصية فإن كان قد فعلها ولم يتب منها فهو مؤاخذ بهذا العزم لأنه إصرار وقد تكلم السبكي في الحلبيات على ذلك كلاما مبسوطا أحسن فيه جدا فقال الذي يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب الأولى الهاجس وهو ما يلقى فيها ثم جريانه فيها وهو الخاطر ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا ثم الهم وهو ترجيح قصد الفعل ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعا لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له ولا صنع والخاطر الذي بعده كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أول وروده ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر أما الأول فظاهر وأما الثاني والثالث فلعدم القصد وأما الهم فقد بين الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة والهم بالسيئة لا يكتب سيئة وينتظر فإن تركها لله كتبت حسنة وإن فعلها كتبت سيئة واحدة والأصح في معناه أنه يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة وأن الهم مرفوع ومن هذا يعلم أن قوله في حديث النفس ما لم يتكلم أو يعمل ليس له مفهوم حتى يقال إنها إذا تكلمت أو عملت يكتب عليه حديث النفس لأنه إذا كان الهم لا يكتب فحديث النفس أولى هذا كلامه في الحلبيات وقد خالفه في شرح المنهاج فقال إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله أو تعمل ولم يقل أو تعمله قال فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصية وإن كان المشي في نفسه مباحا لكن لانضمام قصد الحرام إليه فكل واحد من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده أما إذا اجتمعا فإن مع الهم عملا لما هو من أسباب المهموم به فاقتضى إطلاق أو تعمل المؤاخذة به قال فاشدد بهذه الفائدة يديك واتخذها أصلا يعود نفعه عليك وقال ولده في منع الموانع هنا دقيقة نبهنا عليها في جمع الجوامع وهي أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقا بل بشرط عدم التكلم والعمل حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله ولا يكون همه مغفورا وحديث نفسه إلا إذا لم يتعقبه العمل كما هو ظاهر الحديث ثم حكى كلام أبيه الذي في شرح المنهاج والذي في الحلبيات ورجح المؤاخذة ثم قال في الحلبيات وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به وخالف بعضهم وقال إنه من الهم المرفوع وربما تمسك بقول أهل اللغة هم بالشيء عزم عليه والتمسك بهذا غير سديد لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق واحتج الأولون بحديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال كان حريصا على قتل صاحبه فعلل بالحرص واحتجوا أيضا بالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب كالحسد ونحوه وبقوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم على تفسير الإلحاد بالمعصية ثم قال إن التوبة واجبة على الفور ومن ضرورتها العزم على عدم العود فمتى عزم على العود قبل أن يتوب منها فذلك مضاد للتوبة فيؤاخذ به بلا إشكال وهو الذي قاله ابن رزين ثم قال في آخر جوابه والعزم على الكبيرة وإن كان سيئة فهو دون الكبيرة المعزوم عليها المبحث السادس
Tidak ada komentar:
Posting Komentar