الفكر الاسلامي
الشيخ محمد زمراني اللومبوكي
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي وصف نفسه في كتابه، وعلى ألسنة رسله، فهدانا وعلمنا، وشرح صدور أهل الإيمان إلى توحيده وعبادته وتقديسه، فشهدوا شهادة الحق أن الله إله واحد سبحانه، كما قال عز وجل {شهدَ اللهُ أنَّه لا إلهَ إلا هوَ والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسطِ لا إلهَ إلا هوَ العزيزُ الحكيمُ} (آل عمران:18).
أحمده سبحانه، وأستعينه وأستغفره، وأسأله أن يجعلني أحد أولئك الذين شهدوا له بالوحدانية، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، محمد الداعي إلى سبيل ربه على بصيرة، الذي وصف ربه بما أوحي إليه، فأقام، للناس دينهم الحق، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه القويم إلى يوم الدين.
وبعد:
فالحركة الصوفية حركة قديمة، نشأت في منتصف القرن الثاني الهجري، وبلغت قمتها العقائدية في أواخر القرن الثالث، أي بعد مرور مئة وخمسين سنة تقريباً على نشأتها. وأصبحت عقيدة عامة، وديناً عاماً لعموم المسلمين إلا قليلاً في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر، وكانت هذه القرون قرون ظلام وجهل، أفاق العالم الإسلامي بعدها على الغزو الأوربي لأراضيه. وكان العالم الإسلامي في ذلك الوقت في حالة بلغت منتهى السوء، فإن كثيراً من علماء المسلمين لم يجدوا ما يجابهون به الفاتحين من الفرنسيين إلا أن يقرؤوا كتاب البخاري!! وكان ذلك في القاهرة وفي الأزهر ثم اصطحاب نابليون وإلباسه جبة المشيخة، وإدخاله في حلقة من حلقات الذكر!!.
وأما في المغرب فإن أتباع الشيخ أحمد التجاني كان لهم شرف خدمة الفرنسيين في ترسيخ أقدامهم في شمال أفريقيا وغربها، وأما في السودان فإن السيد الميرغني والطريقة الختمية قد وطأت الناس لدخول الإنجليز، والقضاء على الثورة المهدية.
وهذه الحركة الصوفية ما زالت تعيش إلى يومنا هذا، بل هي في حالة بعث جديد تقوم عليه اليوم مراكز تعليمية كبيرة في بلاد الغرب وفي بلادنا الإسلامية، وهناك حركة نشطة لبعث التراث الصوفي، ليكون دعامة لبعث إسلامي في زعم القائمين على نشر هذا الفكر.
ولقد كانت صلتي بدراسة التصوف قديمة، وذلك للموقف المتناقض الذي وقفه كثير من الباحثين والعلماء من هذه الحركة الصوفية، ومن فكرها الذي نشأ عنها، وكذلك للاختلاف الشديد حول رجالها، فكم من رجل من رجال التصوف اتهمه أناس بالزندقة والإلحاد، ووصفه آخرون بالقديسية والقطبية والغوثية. ولقد كان هذا التناقض والاختلاف في موقف علماء الإسلام إزاء هذه الحركة، وهذا الفكر باعثاً لي على النظر والتفكير والبحث.
فمكثت مدة طويلة أجمع القول إلى القول، وأقف عند العبارة الغامضة طويلاً، وأفسر كلام القوم بعضه ببعض. وأظن أنني الآن بحول الله قد عرفت مغاليق هذا الفكر، ومساربه الخفية، ولم يكن هذا الأمر سهلاً قط، بل يعلم الله أنني تحملت فيه كثيراً من الآلام النفسية المرهقة، وذلك أن أساطين القوم قد مارسوا تشويهاً لكتاب الله عز وجل، وقلباً لمفاهيم السنة الصحيحة، لا يحيط به إلا الله، ولا يطيق الوقوف عليه مسلم جاد!!
ولقد تجشمت مشقة ذلك لعلمي بعد الدراسة والجهد أن هذا الفكر هو أخطر ما يجابه المسلمين في الوقت الحاضر من مشكلات، فمشكلة الفكر الصوفي مشكلة عقائدية، والمشاكل العقائدية هي أخطر ما تقابله الأمة، فالأمة يتحول عملها كله بتحول عقيدتها، فالتتر عندما أسلموا حقيقة، تركوا حرب المسلمين، والمسلمون عندما تركوا الإسلام، وعقيدة الجهاد رضوا بالمستعمرين، وتخلقوا بأخلاقهم، وتثقفوا بثقافتهم.
وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ هو بحث في العقيدة الصوفية: ما هي؟ وما الغاية التي تسعى المتصوفة إلى غرسها؟ وما الفروق بين هذه العقيدة وعقيدة أهل السنة؟ وهذه العقيدة أنقلها لك بنصوصها من الكتب والمراجع الصوفية، التي يعتبرها المتصوفة من أنقى كتبهم وأشهرها، كاللمع للطوسي، والتعرف على مذهب أهل التصوف للكلاباذي، وطبقات الصوفية للسلمي، وغير ذلك من الكتب التي كتبت بأقلام رجال التصوف بأنفسهم.
وستعلم من هذه الدراسة أن التصوف عقيدة فلسفية قديمة، نشأت قبل الإسلام في الفلسفة الاستشراقية المنسوبة إلى (أفلوطين). والفلسفة الهندية القديمة، والتي ما زالت عقيدة الهند إلى اليوم، وهي القول بوحدة الوجود، وهذه العقيدة هي عقيدة كثير من شعراء الفرس قبل الإسلام، وبعد الإسلام كجلال الدين الرومي.
وهذا يعني أن التصوف غير الزهد المعروف في العقيدة الإسلامية، فالزهد شيء، والتصوف شيء آخر، يختلف عنه كل الاختلاف، بل هناك فرق بين الزهد في عقيدة الكتاب والسنة، والزهد في العقيدة الصوفية. فالتصوف فلسفة كاملة، وعقيدة غايتها فتح القلب على علوم غيبية، لا تتلقى عن الرسل، بل تتلقى بطريق (الكشف) عن الله رأساً، أو عن الرسول (حسب زعمهم). ثم التحقق بعد ذلك أن لا موجود في الكون إلا الله، وبذلك يصبح العبد هو الرب، والرب هو العبد، بل الكل شيء واحد في الحقيقة، متفرّق في الصور فقط!! وطريق الوصول إلى هذا العلم الغيبي (الكشف هو المجاهدة بصور كثيرة). وتختلف هذه الصور باختلاف الزمان والمكان، والأشخاص والديانات!! ويجمعها أمور واحدة هي تعذيب النفس، وترديد أذكار معينة، والعزلة وترك الطهارات.
ولا يعني هذا أن كل رجل نسب إلى التصوف كان يعتقد هذه العقيدة، بل من وصل الغاية منهم وصل إلى هذا، ومن لم يعرف التصوف لم يصل إلى هذه الغاية، ووقف عند مرحلة من مراحل الطريق الصوفي، الذي ينتهي بتلك النهاية. فالطريق الصوفي مراحل، وكلام كل إنسان فيه يدل على المرحلة التي انتهى إليها.
والجوانب التي يجب أن يتعرض لها بحث كامل عن التصوف جوانب كثيرة، لا يسعها هذا البحث، ولذلك فقد اقتصرت في البحث الذي بين يدي القارئ الآن على بحث الجانب العقائدي فقط في الفكر الصوفي، جواباً عن سؤال هام: ما هو التصوف؟ وما العقيدة التي ينتهي إليها؟ وما موقف هذا الفكر من قضية الكتاب والسنة؟ وأسأل الله أن يوفقني قريباً إلى إخراج هذا البحث كاملاً، معالجاً جميع القضايا التي أثارها هذا الفكر في العبادات والسلوك وتزكية النفس، ثم الآثار السياسية والاجتماعية لهذا الفكر، مع تعريف برجالاته، منذ ظهوره إلى يومنا هذا، سائلاً الله تبارك وتعالى أن يجعل في هذه الرسالة الميسرة هداية ونوراً لأبناء أمتي الإسلامية، الذين يعزهم الطريق المستقيم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، في وقت تختلط فيه السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، وأسأله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم.
محمد زمراني
الاندونيسي في يوم الاثنين
9 من ذي القعـــدة سنة 1429هـ
الموافق 6 من أغسطس سنة 2009م
الباب الأول
الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا
أ- الكتاب والسنة عقيدة
1- بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر قد انطمست فيه معالم الإيمان بالحق تبارك وتعالى:
أ- فالعرب يعتقدون في وجود الله، وأنه خالق الكون، ومنزل المطر، ولكن هذا الإله في نظرهم لا يستطيع إحياءهم بعد الموت، وليست له غاية من خلق الناس غير هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فليس هناك قيامة ولا حساب، ثم هو إله كملوك الأرض يتوسل إليه من أجل الرزق والمطر، والنصر على الأعداء بكل حبيب عنده كالملائكة والصالحين.
ب- وأما النصارى فقد درس دينهم الحق، ولم يبق عليه إلا أفراد قلائل، وأما الكثرة الغالبة فقد اعتقدت أن عيسى هو الله أو ابن الله -تعالى ربنا عما يقولون- وجعلوا علماءهم ورهبانهم أرباباً، ينفذون أقوالهم في كل شيء، ولو خالف ذلك نصوص الكتاب عندهم، ورفعوا الصالحين منهم إلى منزلة التقديس والتأليه.
ج- وأما اليهود فقد غالوا في تشبيه الله بخلقه، ونسبوا إليه كل القبائح التي تنسب إلى البشر من الكذب والبخل، والغفلة، وعدم العلم بالمستقبل.
د- وفي بلاد فارس والهند عاشت فلسفات كثيرة، كل فلسفة تصور معبودها بصورة تروق في عقل قائلها:
- ففلسفة نادت بإلهين للعالم: إله للنور وآخر للظلمة، وزعمت صراعاً بينهما، ودعت الناس إلى مساعدة إله الخير والنور، بإشعال النيران لينتصر الحق على الباطل.
- وفلسفة نادت بخالق للكون، يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه بصنوف من المجاهدات حتى يفنى فيه ويلتحق به، ولا تنسخ روحه مرة ثانية بعد الموت إلى هذا العالم.
- وفلسفة نادت بالوجود الكلي لذات واحدة، تعددت وجوداتها بتعدد صفاتها، ولهج الشعراء والكتاب من الفرس بحب هذه الذات التي تتراءى لهم في كل شيء، وتظهر لهم في كل موجود.
هـ- وفي اليونان ظهرت فلسفات كثيرة نادى معظمها بخالق للكون سموه واجباً للوجود أو علة للعلل، عنه نشأ العالم وصدر، ولكن هذه الفلسفة وقفت حائرة عاجزة أمام الغاية والهدف الذي من أجله خلق هذا الخالق الكون، والنهاية التي يسير إليها الناس.
2- وكل هذه الفلسفات السابقة كانت محاولات بشرية لمعرفة الغيب، وما وراء هذا العالم المشاهد، وبديهي أن تنتهي هذه المحاولات البشرية بالإخفاق الذريع، إذ لا سبيل للبشر إلى معرفة الغيب إلا الظن والحدس والتخمين، أو الجن والشياطين.
3- بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليرشد كل أولئك الحيارى الضالين إلى ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وليعلمهم الحكمة التي من أجلها خلقهم، والغاية التي إليها يسيرون، والمنهج الذي يحبه الله لعباده ويرضاه لهم.
4- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس الدليل الكامل على أنه رسول من الله تبارك وتعالى، يأتيه الوحي من السماء، فقال لهم: هذا كلام الله، أقرؤه عليكم، وإن لم تصدقوني فأتوا بسورة واحدة من مثله.
5- وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجه كل هذا الركام من الأفكار والعقائد والمذاهب والفلسفات، وأن يقيم الحجة والبرهان على فسادها جميعاً، وصحة ما يدعو هو الناس إليه، وكانت المعركة عقائدية.
ب- الكتاب والسنة منهجاً
للتشريع ميادين كثيرة منها العبادات، والمعاملات، والسياسة وأمور المعاش والحياة، وباب الاجتهاد مفتوح فيها جميعاً إلا العبادات فليس فيها اجتهاد، فكل ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى من أعمال يجب الوقوف فيها عند الحد المشروع، ولم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أن يزيد على ما قال فيها، أو أن يبدل شيئاً منها. وهاك بعض الأدلة التي تثبت هذا الأصل من أصول الإيمان:
أ- رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يمشي في الحج بين رجلين يسندانه فقال صلى الله عليه وسلم: [ما هذا؟] فقالوا: يا رسول الله نذر أن يحج ماشياً. فقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني!! مروه فليركب] (رواه بنحوه البخاري (4/450 و451-فتح) ومسلم (11/102 و103) وغيرهما عن أنس) فنهى صلى الله عليه وسلم عن فعل لم يشرعه الله عز وجل، وإن كان فاعله قاصداً به التعبد والتقرب إلى الله عز وجل.
ب- ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يجلس في الشمس فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله نذر أن يصوم، ولا يتكلم ويجلس في الشمس فقال صلوات وسلامه عليه: [ليتم صومه، وليتكلم وليجلس في الظل] (رواه بنحوه البخاري (12/401 و412) وأبو داود (3300) وغيرهما عن ابن عباس) فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصوم الشرعي فقط، ونهاه عن الصوم المبتدع وهو السكوت. وإن كان مشروعاً في شريعة سابقة كما في قصة زكريا وقول مريم عليهما السلام: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} (مريم:26)، ولكن الله عز وجل لم يتعبدنا بهذه الشريعة وأمره بأن يتحول إلى الظل، لأن الجلوس في الشمس مع وجود الظل تكلف سخيف، وخروج عن جادة الحق، وعبادة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى.
ج- وأبلغ من الدليلين السابقين حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن أباه شكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه زوجه امرأة من أشراف العرب، ومكث يسألها كل يوم: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: صالحاً غير أنه لم يطأ لنا فراشاً.. وذلك لخمس عشرة ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص: [بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل]، فقال: نعم يا رسول الله. ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [صم من كل شهر ثلاثة أيام] فقال: يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: [خمساً]. قال: يا رسول الله! قال: [سبعاً]. قال: يا رسول الله! قال: [تسعاً]، ثم قال له في النهاية: [صم صيام أخي داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى] (هذا الحديث مركب من روايتين رواهما مسلم في صحيحه (8/44-47 نووي) بنحوه، كما روى نحوه البخاري (5/124 فتح)).
وفي هذا الحديث من الفقه أن منهج الإسلام هو الإعتدال بين حاجات الإنسان كلها فيعطي الإنسان حق ربه، ولا ينسى في سبيل ذلك حق زوجه ونفسه، وعينه وقوته. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: [إن لربك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه] (رواه البخاري (5/114 فتح) في قصة سلمان وأبي الدرداء، وفيه أن المتكلم بهذا هو سلمان، وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم كلامه هذا. وفي قصة ابن عمرو الجملتان الأوليان منه مرفوعتين).
وهنا لفظه في الحديث يجب أن نقف عندها طويلاً، وهي أن المسلم لا يجوز أن يصوم صوماً يضعفه حتى إنه ليفر من العدو، ولذلك قال الرسول لعبد الله: [فصم صيام داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى] وهذه القوة البدنية للقاء العدو مطلوبة في الإسلام، لأن الجهاد هو من أعلى مراتب الإسلام. فالذين يميتون قواهم بالتعبد ولو كان أصله مشروعاً، ويطغى هذا على جانب آخر من العبادة فإنهم مفرطون بهذا الفعل، عاصون لله تبارك وتعالى من جهة أخرى.
د- وفي الحديث الصحيح الآخر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وجلس عمر بن الخطاب يقول: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً حتى سكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم (1/49-51) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه بنحوه مطولاً)، وسر غضبه صلوات الله وسلامه عليه أن هذا السائل أراد أن يضاهي فعل الرسول في هذه العبادة التي كان له فيها خصوصية، وهي أنه يواصل اليوم واليومين والثلاثة وكان يُسأل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيقول: [لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني] (رواه مسلم (7/212 و215) بنحوه عن أبي هريرة وعائشة وأنس رضي الله عنهم).
هـ- وأبلغ هذه الأدلة كلها في مسألة التعبد والتقرب، أنه لا يجوز فيه إلا اتباع المشروع، والتقيد بالكتاب والسنة هو حديث النفر الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم صعد المنبر، وجمع الناس ثم قال: [ما بال أقوام يقولون كذا.. أما إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني] (رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وليس فيه صعود المنبر وجمع الناس).
وفي هذا الحديث من الفقه شيء كثير ويهمنا الآن ما نحن بصدده، وهو أن أي تجاوز فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فمعنى ذلك الخروج من منهج الإسلام إلى منهج آخر حتى ولو صلحت النيات، وأريد بذلك وجه الله عز وجل، فإن الرب تبارك وتعالى لا يُعبد إلا بما شرع.
وأمر آخر وهو أن تجاوز فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بتشريع جديد كالترهُّب، أو الزيادة في المشروع كالصيام أبداً، وقيام الليل كله هو اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في القمة من معرفة الله تبارك وتعالى، والقيام بحقه. ولذلك قال أولئك النفر: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعنون أن الله قد غفر ذنوبه، فليس بمحتاج إلى اجتهاد في العبادة، ومعنى هذا أن الرسول قد ترك شيئاً من وسعه في العبادة استناداً إلى هذه المغفرة، والحظوة عند الله تبارك وتعالى، وهذا من الاعتقادات التي لا تليق في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك وسعاً في عبادة الله وطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم في القمة دائماً، وفي المقدمة دائماً كما أمره بذلك ربنا سبحانه وتعالى حيث قال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام:162و163)، فهو صلى الله عليه وسلم أول المسلمين في كل شيء، فلا يجوز لمسلم أن يظن فيه غير ذلك، والزيادة علي ما شرعه إنما هي اتهام له صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: [إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا] ثم فاصل بين من أراد طريقه بالالتزام، ومن لم يلتزم قال له [فمن رغب عن سنتي فليس مني].
16- ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان كل ذلك، بل أعلن في كل خطبة من خطبه للناس : [وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار] (هاتان الجملتان جزء من خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ بها خطبه، والجملة الأولى عند مسلم والبيهقي، وهي الجملة الثانية عند النسائي، وإسناده صحيح، وانظر رسالة (خطبة الحاجة) لأستاذنا الألباني فقد جمع فيها طرقها ورواياتها)، وقال أيضاً : [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (رواه البخاري ومسلم) فكل عمل محدث يراد له التقرب إلى الله عز وجل فهو مردود على صاحبه، والتعبد هو بالمشروع فقط.
17- ولقد أصل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أصلاً خطيراً، وهو تعمد مخالفة أهل الكتاب والأمم الأخرى، وذلك حتى تتحقق ميزة الأمة بالمنهج المستقل والأفعال المستقلة، وحتى لا تختلط أفعال الأمة وعباداتها بأفعال الأمم الأخرى وعباداتها، فأمر أن نصلي بالنعال والخفاف مع العلم أن خلعها أتم لمعاني الخضوع والذلة، وذلك مخالفة لليهود والنصارى الذين لا يصلون في خفافهم ونعالهم. فقال: [إن أهل الكتاب لا يصلون في خفافهم ونعالهم، فصلوا في خفافكم ونعالكم] (رواه أبو داود (652) عن شداد بن أوس، وإسناده صحيح، ولفظه: [خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم] وصححه الألباني في (صحيح الجامع-3205) و (تخريج المشكاة-765)).
ولهذا الأصل أدلة وشواهد لا تحصى كثرة (من أجمع الكتب المؤلفة في ذلك كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية والفصل الخاص بحرمة التشبه بالكفار من (حجاب المرأة المسلمة) للألباني)، والمراد هنا التنبيه على أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون أمة مستقلة في كل شيء: المنهج والعبادة، والسلوك والآداب والعبادات، وحتى اللباس والمظاهر والعادات.
18- وأرجو أن أكون بهذه المقدمة قد أوضحت جانباً من هذه القضية: قضية الالتزام بالكتاب والسنة عقيدة وعبادة، وسلوكاً وآداباً بالمشروع فقط.
الصحابة رضوان الله عليهم والأصلان السابقان:
19- فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأصل الأصيل لأنه مقتضى قولهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فاتبعوا هذا الأصل، وكانوا حراساً له، فما شاهدوا انحرافاً ولو يسيراً إلا شددوا نكيرهم على فاعليه، وبتروه من أصله. ومن أكبر الأدلة على ذلك أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد في الكوفة فرأى حلقاً، وفي وسط كل حلقة كوماً من الحصى، ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم: سبحوا مئة فيسبحون مئة. احمدوا مئة فيحمدون مئة، كبروا مئة، فيكبرون مئة؛ فقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: يا قوم! والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول صلى الله عليه وسلم أو مقتحموا باب ضلالة (رواه الدارمي (1/68) بتمامه مع بعض اختلاف، وإسناده جيد، وصححه أستاذنا الألباني في رسالة (الرد على التعقب الحثيث ص45))، وهذه قضية منطقية سليمة، فهؤلاء إما أن يكونوا أهدى من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم قد وفقوا لعمل لم يصل إليه علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكونوا في ضلالة، والفرض الأول منتف حتماً، لأنه لا أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الفرض الآخر، وهو أنهم قد اقتحموا باب ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير، وهذا دليل منهم على صلاح نياتهم، وإرادتهم وجه الله تبارك وتعالى بهذا العمل المبتدع. ولكن عبدالله بن مسعود قال لهم: "وكم من مريد للخير لم يبلغه"!! وهذا معناه أن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، بل لا بد أن ينضاف إلى ذلك التقيد بالمشروع.
20- وبالغ الصحابة رضوان الله عليهم في حماية جناب الدين وجانبه أن يدخل فيه الغريب، وما ليس منه حتى يصفو للناس التأدب بالأدب الخالص، والتخلق بالخلق الكامل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطرد علي بن أبي طالب رضي الله عنه القصاصين من المساجد، وهم الوعاظ الذين يعظون الناس، ويزعمون ترقيق قلوبهم بالقصص الخيالي، والحكايات والأساطير، وأنكر ابن عمر على رجل عطس، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قائلاً له: "ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل: وليصل على رسوله"!! (رواه بنحوه الترمذي (8/9 تحفة) وفيه ضعف، ورواه أيضاً الطبراني والبزار فينظر اسناده فيهما، فلعله يقوى به).
الحقائق.. والموازين:
وبمجموع هذه الأدلة يتضح لنا الحقائق التالية لفهم قضية الكتاب والسنة:
أولاً: الهدى هو ما كان من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط {قل إن هدى الله هو الهدى} {فماذا بعد الحق إلا الضلال}.
وإن هذا الهدى محصور في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وليس وراء هذا طريق ثالث يقرب إلى الله، ويباعد عن النار.
ثانياً: إن كل عقيدة تخالف كتاب الله وسنة رسوله هي عقيدة باطلة يجب حربها والقضاء عليها.
ثالثاً: إن كل زيادة أو نقص في تشريع العبادات والسلوك يراد به التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة، حتى لو كان صدر هذا ممن ينتسبون إلى الإسلام ويدعون إليه.
رابعاً: إن كل من ادعى علماً غيبياً في كتاب الله وسنة رسوله، زاعماً أنه قد وصل بطريق الجن أو الفيض أو الفتح، أو الاتصال بالسماء إنما هو كاذب مارق.
خامساً: إن أقوال العلماء في أمور الدين لا تؤخذ قضية مسلمة قط، بل لا بد من عرضها على الكتاب والسنة، فما وافق أخذ وما خالف ذلك رد، وإذا جاز لنا أحياناً الأخذ بها والعمل بها إذا لم نعلم الدليل، فإنما ذلك إلى حين معرفتنا بالدليل، ومتى عرفنا الدليل حكمنا به على القول.
سادساً: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أعبد الناس، وأتقى الناس، وأنهم تحققوا بهذين الأصلين: الكتاب والسنة، وأن من كان على مثل ما كانوا عليه فقد اهتدى، ومن شذ يميناً أو يساراً فقد ضل.
الباب الثاني
مجمل تاريخ الشريعة الصوفية
الفصل الأول
لمحة سريعة عن تاريخ التصوف
لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف وإن كان الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما دخل مصر قال: تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئاً يسمونه السماع.. والزنادقة الذين عناهم الشافعي هنا هم المتصوفة (والسماع) هو الغناء والمواجيد والمواويل التي ينشدونها ومعلوم أن الشافعي دخل مصر سنة 199هـ وكلمة الشافعي توحي بأن قضية السماع هذه قضية جديدة ولكن أمر هؤلاء الزنادقة يبدو أنه كان معلوماً قبل ذلك. بدليل أن الشافعي قال كلاماً كثيراً عنهم كقوله مثلاً (لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يكون أحمق) (تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370) وقال أيضاً: ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً (المصدر السابق ص370)، وكل هذا يدل على أنه قد كان هناك قبل نهاية القرن الثاني الهجري فرقة معلومة عند علماء الإسلام يسمونهم أحياناً بالزنادقة وأحياناً بالمتصوفة..
وأما الإمام أحمد فقد كان معاصراً للشافعي وتلميذاً له في أول الأمر فقد أثر عنه أقوال كثيرة في التنفير من أفراد معينين نسبوا إلى التصوف. كقوله في رجل جاء يستفتيه في كلام الحارث المحاسبي: قال أحمد بن حنبل: "لا أرى لك أن تجالسهم" وذلك بعد أن اطلع أحمد بن حنبل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها للبكاء -ومحاسبة النفس كما يزعمون- والكلام على الوساوس وخطرات القلوب. فلما اطلع الإمام أحمد على ذلك قال لسائله محذراً إياه من مجالستهم وكتبهم "إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات". والذي يبدو أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال هذا الكلام في مطلع القرن الثالث، ولكن هذا القرن ما كاد يكتمل حتى ظهر التصوف على حقيقته، وانتشر في الأمة انتشاراً ذريعاً، واستطاع المتصوفة أن يظهروا ما كانوا يخفونه سابقاً.
والمطلع على الحركة الصوفية من أول نشأتها إلى حين ظهورها العلني على ذلك النحو يجد أن أساطين الفكر الصوفي جميعهم بلا استثناء في القرن الثالث والرابع الهجريين كانوا من الفرس ولم يكن فيهم عربي قط، وعند مقابلة الدين الصوفي ستجد أن التصوف هو الوجه الآخر للتشيع (اقرأ الفصل الخاص بذلك: الصلة بين التصوف والتشيع) وأن أهداف التصوف والتشيع كانت واحدة تقريباً، في السياسة والدين،،..، والمهم هنا هو التذكير بأن التصوف بلغ غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله فقتل سنة 309هـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج.. وسيأتي وصف تفصيلي لعقيدة الحلاج عند بيان العقيدة الصوفية.
وعلى الرغم من ذلك فإن الصوفية ظلت تواصل انتشارها في أرض فارس على الخصوص ثم العراق.. وساعد على انتشارها في فارس أن أقام رجل يسمى أبو سعيد الميهني نظاماً خاصاً للخانات الذي أصبح فيما بعد مركزاً للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التصوف ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب، وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعاً مخصوصين، فظهر الرفاعي في العراق، والبدوي في مصر وأصله من المغرب ولا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ولا هو من المغرب، وكذلك الشاذلي في مصر وأصله كذلك من المغرب. وتتابع ظهور الطرق الصوفية التي تفرعت من هذه الطرق، وفي القرون السادس والسابع والثامن.. بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي رضي الله عنهما في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي؛ لقد بدأت الدعوة الفاطمية بالمغرب لتكون بديلاً للحكم العباسي السني، واستطاعت هذه الدولة تجنيد هذه الفرق الصوفية وغزو العالم الإسلامي بهذه الجيوش الباطنية التي كان لها أعظم الأثر بعد ذلك في تمكين الجيوش الصليبية من أرض الإسلام كما ستطالعه بأدلته في هذه الرسالة.
وأخيراً عم الخطب وطم في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة.
لقد بدأت طلائع هذه النهضة ومقدماتها في آخر القرن السابع وبداية القرن الثامن على يد الإمام المجدد أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني الذي صاول كل العقائد المنحرفة بقلمه وبيانه ومن جملة ذلك عقائد المتصوفة وشرائعهم المبتدعة ولاقى في هذا ما لاقى (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للرفاعية البطائحية) وجاء تلاميذه من بعده مجاهدين في هذا الصدد كابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزني، وغيرهم،.. ولكن شوكة التصوف والتخريف والعقائد الباطلة كانت قد تمكنت من الأمة تمكناً عظيماً، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للأمة في القرن الثاني عشر الهجري الإمام الجليل محمد بن عبدالوهاب الذي تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فقام مصاولاً هذا الباطل الذي عم الآفاق وقد حقق الله على يديه ظهور النهضة الإسلامية الحديثة فقد استجاب لدعوته المخلصون في كل أنحاء العالم الإسلامي وتردد صداها في الهند والسودان ومصر والشام وكل بلاد الإسلام، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحركة الصوفية تتعرى أوراقها شيئاً فشيئاً، وتبدد عقيدة التوحيد ظلامها، وتزيل من نفوس الأمة ترهاتها وخرافاتها..
واليوم بحمد الله يكتسح طوفان الحق جيش الباطل ويعود التصوف مرة أخرى إلى الإنجحار والاستتار كما بدأ وكما هو دائماً شأن العقائد الباطنية، ولكن ما زالت دولة الصوفية قوية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي وخاصة في أفريقيا ودول من آسيا. حيث العربية غير معلومة وحيث الجهل بالتوحيد والدين الصحيح ما زال قائماً، ثم إن رموز التصوف ما زالت موجودة وأعني برموزه القبور والمزارات والشيوخ الضالين والعقائد الفاسدة؛ كل ذلك ما زال موجوداً، وهو يحتاج إلى جهد جهيد، وجهاد طويل لاقتلاع آثاره في القلوب والنفوس والأرض. وفي الفصل الخاص بالطرق الصوفية سيرى القارئ بعض هذا الواقع القائم إلى اليوم.
..هذه لمحة سريعة مجملة لنشأة الفكر الصوفي وتطوره..
الفصل الثاني
لمحة عن العقيدة والشعائر الصوفية
تختلف العقيدة الصوفية في صورتها الأخيرة عن عقيدة الكتاب والسنة من كل وجه من حيث التلقي والمصادر أعني مصدر المعرفة الدينية؛ ففي الإسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن أو سنة لكن في التصوف تثبت العقيدة بالإلهام والوحي المزعوم للأولياء والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول حيث يستمد العلوم منه في زعمهم، وبلقاء الرسول في اليقظة والمنام حسب زعمهم، وبالرؤى..، وبالجملة فالمصادر الصوفية للغيب كثيرة جداً.
ولما تعددت هذه المصادر على هذا النحو، كانت العقيدة نفسها واسعة متطورة متغيرة مختلفة بل ومتناقضة بين صوفي وصوفي حيث كل منهم يزعم أنه يخبر بما أداه إليه كشفه هو، وما ورد على خاطره وما قاله له الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ألقاه الملك إليه أو اطلع عليه بنفسه في اللوح المحفوظ..
وأما القرآن والسنة فإن للصوفية فيهما تفسيراً باطنياً حيث يسمونه أحياناً تفسير الإشارة، ومعاني الحروف فيزعمون أن لكل حرف في القرآن معنى لا يطلع على معناه إلا الصوفي المتبحر، المكشوف عن قلبه.. وعلى هذا الأساس كان للمتصوفة دينهم الخاص الذي يختلف في أصوله وفروعه عن الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه باختصار هي جملة عقائدهم في الله والرسول والأولياء والجنة والنار وفرعون وإبليس، وكذلك جملة اعتقاداتهم في الشرائع.
1- عقيدتهم في الله:
يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق وهذه هي العقيدة الأخيرة التي انتشرت منذ القرن الثالث وإلى يومنا هذا وأطبق عليها أخيراً كل رجال التصوف وأعلام هذه العقيدة كابن عربي وابن سبعين، والتلمساني، وعبدالكريم الجيلي، وعبدالغني النابلسي، وعامة رجال الطرق الصوفية المحدثين.
2- وفي الرسول صلى الله عليه وسلم:
يعتقد الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلاً بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: (خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله) ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وأنه هو أول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده.
3- وفي الأولياء:
يعتقد الصوفية في الأولياء عقائد شتى فمنهم من يفضل الولي على النبي وعامتهم يجعل الولي مساوياً لله في كل صفاته فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق ولهم ديوان يجتمعون فيه في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار؛ الأولياء عالم خرافي كامل.
هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات والعبودية الكاملة لله والفقر إليه وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً عن أنه يملك لغيره قال تعالى لرسوله {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} (الجن:21).
4- وفي الجنة والنار:
وأما الجنة فإن الصوفية جميعاً يعتقدون أن طلبها منقصة عظيمة وأنه لا يجوز للولي أن يسعى إليها ولا أن يطلبها ومن طلبها فهو ناقص، وإنما الطلب عندهم والرغبة في الفناء المزعوم في الله، والإطلاع على الغيب والتصريف في الكون.. هذه جنة الصوفي المزعومة.
وأما النار فإن الصوفية يعتقدون أيضاً أن الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل لأن الخوف منها طبع العبيد وليس الأحرار بل منهم من تبجح أنه لو بصق على النار لأطفأها، كما قال البسطامي. وأما من يعتقد بوحدة الوجود منهم فإنه يعتقد أن النار بالنسبة لمن يدخلها تكون عذوبة ونعيماً لا يقل عن نعيم من يدخل الجنة. وهذه عقيدة ابن عربي كما ذكر ذلك في الفصوص.
5- وفي إبليس وفرعون:
وأما إبليس فيعتقد عامة الصوفية أنه أكمل العباد وأفضل الخلق توحيداً لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم وأن الله قد غفر له ذنوبه وأدخله الجنة، وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحدين لأنه قال {أنا ربكم الأعلى} فعرف الحقيقة لأن كل موجود هو الله ثم هو في زعمهم من آمن ودخل الجنة.
وأما الشعائر الصوفية:
1- ففي العبادات:
يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فإن لهم عبادات مخصوصة.
وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة.
وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة حسب زعمهم، والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت، ويتصرف في الكون.
ولا يهم في التصوف أن تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية. فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأن لكل واحد شريعته فشريعة محمد للعوام وشريعة الصوفي للخواص.
2- وفي الحلال والحرام:
وكذلك الشأن في الحلال والحرام فأهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندهم لأن لكل عين واحدة.. ولذلك كان منهم الزناة واللوطية، ومن يأتون الحمير جهاراً نهاراً. ومنهم من اعتقد أن الله قد أسقط عنه التكاليف وأحل له كل ما حرم على غيره.
3- وفي الحكم والسلطان والسياسة:
وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.
4- وفي التربية:
ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس، ويلغونها وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم بشأن التصوف ورجاله ثم بالتلبيس على الشخص ثم بالزرق إلى علوم التصوف شيئاً فشيئاً ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج.
ولكن كيف بدأت هذه العقائد الصوفية وتطورت على هذا النحو..؟!
تعالوا نشاهد كيف بدأت العقيدة الصوفية وتطورت..
الباب الثالث
نشأة العقيدة الصوفية وتطورها
الفصل الأول
طريق الهداية الصوفي
لم يصل في -حدود علمي- أحد ممن بحث في التصوف إلى معرفة الرجل الأولي الذي تسمى باسم (الصوفي) في الإسلام ولا من وضع اللبنات الأولى لهذا الفكر.
ولا شك أن التصوف منهج نشأ قبل الإسلام فكراً وسلوكاً وعقيدة، وأنه كان في كل الأمم والديانات وخاصة في البرهمية الهندوكية والفلسفة الإشراقية اليونانية والمجوسية الفارسية، وكذلك نشأت النصرانية -ولا شك أن التصوف غير الرهبانية وغير الزهد كما سنعلم تفصيلاً- ثم انتقل بعد ذلك إلى الفكر الإسلامي عن طريق الزنادقة المجوس، وأخذ مجراه في واقع الأمة الإسلامية وتطور حتى بلغ شأوه وألفت مصادره، ووضعت أصوله وقواعده النهائية في القرن الرابع والخامس الهجري.
ولكن بعض الكتاب ظن أن هناك صلة بين التصوف والزهد، ولذلك نسب إلى التصوف كل من عرف بالزهد والرغبة عن الدنيا، والإقبال على الله كإبراهيم وكالفضل بن عياض، وعبدالله بن المبارك وبشر الحافي وإبراهيم بن أدهم ونحوهم من العباد والزهاد.. والذي ساعد في هذا الخلط بين الزهد والتصوف أن الذين وضعوا طبقات الصوفية جعلوا أمثال هؤلاء أئمة في هذا الشأن، بل تجاوز بعضهم الحدود من أمثال الشعراني، وجعل الخلفاء الراشدين هم أو رجال في طبقات الصوفية وحاشاهم..
والحال أنه شتان ما بين الزهد والتصوف فالزهد في الدنيا فضيلة وعمل مشروع مستحب وهو خلق الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين الذين يؤثرون ما عند الله على التنعم، والتلذذ والانشغال بالمباحات، بل يتركون بعض الطيبات في المباحات طمعاً فيما عند الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} وقال أيضاً: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.
وفي الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت "كان يأتي الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار". قيل فما كان طعامكم: قالت "الأسودان التمر والماء"..
وعلى كل حال فيعلم الله أن قصدي من تأليف الكتاب هو بيان الفكر الصوفي من حيث هو مدون ومسطور في كتب القوم وبيان ما فيه من الباطل والتغرير، وأنا أعلم أيضاً أن الذين وضعوا هذا الفكر قد كذبوا على كثير من فضلاء الناس، وزهاد الأمة وليس قصدنا عداوة مع هؤلاء الفضلاء فنعوذ بالله أن نؤذي مسلماً بلسان أو يد.. وإنما مقصدنا الذب عن عقيدة الإسلام وشريعة سيد المرسلين وبيان ما في هذا الفكر من الانحراف، وما في هذه الحكايات من الباطل.
ومرة أخرى أقول لا نستطيع أن نجزم من هو أول شخص تسمى باسم الصوفي في الإسلام، وألقى بالكلمات الأولى والقواعد الأولى ليؤسس هذا المنهج. ولا شك أن ذلك كان في منتصف أو أوائل القرن الثاني من الهجرة. فإن الإمـام الشافعي المتوفي سنة 205هـ يقول: "تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئاً يسمونه السماع" أ.هـ
(والزنادقة) هنا هم الصوفية (والسماع) هو الغناء والأناشيد التي كانوا يتجمعون عليها، ولا شك أن ظهور الصوفية بهذه البدعة لم يكن وليد سنة أو سنتين إنما كان وليد سنوات تطورت بدعة الصوفية حتى استطاعوا أن يعلنوا بدعتهم بالغناء والطرب بالدفوف ونحو ذلك في عاصمة الخلافة ببغداد، ولا شك أن مثل هذه المظاهر والعقائد المنافية للإسلام الصحيح بدأت دعوة سرية ثم تطورت واستفحل شرها، وأعلن عنها أصحابها ومن أجل ذلك لا يعلم على القطع والحقيقة الرائد الأول للفكر الصوفي في الإسلام وواضع لبناته الأولى..
ومما يدل على أن الأمر كان سرياً في أوله ما روي عن الإمام أحمد أنه سمع الحارث المحاسبي يجتمع مع جماعة في منزل من المنازل وأنهم يقضون ليلهم في البكاء ومحاسبة النفس والكلام على الخطرات والوساوس وأن الإمام أحمد بعد أن استمع إليهم خلسة من منزل مجاور أصبح يقول: نفروا الناس عن الحارث المحاسبي، وقال لمن سأله هل يجلس معهم ويقضي الليل معهم قال: لا أرى لك أن تجالسهم.
والشاهد أن هذه البدعة لا شك أنها بدأت سرية ثم تطورت واستعلنت.
ونعود إلى أبي عبدالرحمن السلمي المتوفي سنة 412هـ والذي لفق حكايات الصوفية ووضعها على ألسنة المشايخ السابقين لنجد أنه جعل إبراهيم بن أدهم رائداً ومؤسساً لبدايات هذا الفكر..
نأتي إلى حكايات السلمي لنناقش هذه الحكايات لا من حيث ثبوتها ونفيها ولكن من حيث أنها قد أصبحت هي العماد الذي قام عليه هذا الفكر..
الفصل الثاني
طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفاً
في الفصل السابق علمنا أن التصوف في بدء نشأته قد جعل غايته ما عبر عنه إبراهيم بن أدهم (بالأثرة لله)، وأنه في سبيل ذلك يجب أن تتحقق مفارقة الدنيا والانخلاع منها، وعلى هذا الأصل كان تشريع ترك الزواج والتكسب، لأنهما من أسباب القعود عن تحقيق هذه الغاية. وهذا الإله الذي سعى المتصوفة الأولون ومن بعدهم إلى إثاره على كل شيء. لا يستمدون معرفته والعلم بذاته وأفعاله عن طريق الكتاب والسنة، وإنما عن طريق فتح أبواب السماء -على حد تعبيرهم- بالمجاهدة والسلوك الصوفي، لينكشف لهم وجه الحق، ويعلموه على حقيقته، وعندما نتتبع هذه العقيدة منذ ظهورها إلى أن اكتملت في صورتها النهائية، وحددت تحديدها الأخير، فإننا سنعلم الصورة الكاملة للعقيدة الصوفية في الرب سبحانه وتعالى، والجنة والنار، والرسالات والغيب كله.
أولاً: عبادة الله لذاته:
زعم المتصوفة أن العبادة الحقة هي ما كانت دون طلب العوض من الله وأن يشهد فيها فعل الله لا فعل العبد، وأن من شاهد فعله في الطاعة فقد جحد، وقد استدلوا على ذلك بأدلة نذكرها فيما يلي:
1- ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتابه (التعرف لمذهب أهل التصوف) وهو الموسوعة الفقهية التي نشرها الدكتور عبدالحليم محمود وطه عبدالباقي سرور، وشهدا في مقدمة الكتاب بأنه أقدم ما كتب عن هذا العلم ورجاله وأدقه وأصفاه، أقول؛ قال الكلاباذي في بيان المعنى الحق للعبادة، وأنها لا تجوز في حق الصوفي أن تكون عن عوض، قال: "العوض ما لله عليك في العمل في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}" (التوبة:111)، ولم يكمل الآية ثم قال: "لتعبدوه بالرق لا بالطمع" (ص141) فرؤية الجنة عندهم معصية، وطلبها نقص في حق العابد".
ولذلك قال (ص155): "دخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى، فقالوا: ما حالك؟ قالت: والله ما أعرف لعلتي سبباً، غير أني عرضت على الجنة (هكذا) فملت بقلبي إليها، فأحسب أن مولاي غار علي، فعاتبني فله العتبى". ومعنى هذا أن مجرد ميل القلب إلى الجنة يعتبره المتصوفة ذنباً يعاقبون عليه. وفي سبيل هذه العقيدة حول المتصوفة معاني الآيات والأحاديث إلى ما يريدون إثباته من ذلك. وهذه بعض أدلتهم التي أخذوها من الآيات والأحاديث:
1- قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} بهذا المقطع من الآية فقط يستدل الكلاباذي علي عقيدة القوم، ويقول: ليعبدوه بالرق لا بالطمع. ويقطع الآية عن نهايتها التي ترد فيها قوله، وهي قوله تعالى: {بأن لهم الجنة} فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض وهو الجنة، وعمل المؤمنين كان سبباً للوصول إلى هذه الجنة، وإن كان غير مكافئ لها، ولكن لا يمنع هذا المؤمن أن يطمع في فضل الله ورحمته، ودخول الجنة، وأن يسعى إلى ذلك، بل هذا هو التعبد الصحيح.
2- قوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية} (الحاقة:24) يقول الكلاباذي: "أي الخالية عن ذكر الله، لتعلموا أنه بفضله نلتم لا بأعمالكم" (ص142) فسر الخالية هنا بمعنى الخالية عن ذكر الله، أي لأنكم لم تذكروا الله في بعض الأيام استحق هذا مني أن أدخلكم الجنة، لتعلموا أنما دخلتموها بفضلي لا بعلمكم. وهذا تفسير خاطئ معكوس لمعنى الآية، فالله عز وجل يقول للمؤمنين يوم القيامة: كلوا واشربوا هنيئاً بسبب ما أسلفتموه في الأيام الخالية أي السابقة التي خلت. والذي أسلفوه هو العمل الصالح.
3- استدل الكلاباذي أيضاً على هذه العقيدة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: [الصوم لي، وأنا أجزي به] (هو جزء من حديث رواه بنحوه البخاري ومسلم (3/157 و158 نووي) والترمذي (764) عن أبي هريرة) قال: "قال أحد الكبراء: أي أنا الجزاء به" (ص143).
وأحد الكبراء هذا هو الحلاج. وهذا تحريف لمعنى الحديث، ليوافق هذا المعتقد الباطل.
وقد يظن المسلم في عصرنا الحاضر أن هذه العقيدة في الجنة عقيدة سامية، وهي أن يعبد الإنسان الله، لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار، ولكنها عقيدة غير صحيحة إذ هي مخالفة لعقيدة الكتاب والسنة.
فقد وصف الله حال الأنبياء في عبادتهم وتقربهم ودعائهم بأنهم كانوا {ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} (الأنبياء:90)، والرغب هو الطمع في جنة الله وفضله، والرهب هو الخوف من عقابه، والأنبياء هم أكمل الناس عقيدة وإيماناً وحالاً.
وكذلك وصف تبارك وتعالى أكمل المؤمنين إيماناً بقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خروا سجداً وسبّحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون* تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفسٌ مّا أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (السجدة:15-17).
فهؤلاء الذين ادخر الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر لا شك أنهم أكمل الناس إيماناً وحالاً، ومع ذلك فهم يدعون ربهم خوفاً وطمعاً: خوفاً من عذابه، وطمعاً في جنته. وآيات القرآن في هذا المعنى لا تحصى كثرة.
وأما السنة فلا حصر للأحاديث في ذلك، ومن أبلغها في الدّلالة على هذا الأمر قول أحد الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، وإنما أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [حولها ندندن] (رواه أبو داود (792 و793) وابن ماجة (910) وأحمد (3/474 و5/74) وابن خزيمة، وصحح إسناده الألباني في (صفة الصلاة-202))، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدندن بدعائه حول الجنة، فهل يتصور عقلاً وجود رجل أو امرأة أكمل منه صلى الله عليه وسلم، فيدعو الله ويعبده لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من نار؟.
وهذه الحالة التي سعى المتصوفة إلى تحقيقها، أعني عبادة الله مجردة عن الطمع والخوف جرت عليهم البلايا: فقد سعوا إلى غاية أخرى بالعبادة وهي القول بالفناء في الرب، وجرهم هذا إلى الجذب، ثم جرهم هذا إلى الحلول، ثم جرهم هذا في النهاية إلى وحدة الوجود.
وفي هذا الفصل من الرسالة سنسوق إليك الأدلة على هذا التسلسل العقائدي.
وقد مر بك أن رابعة العدوية لما اشتكت، وعادها بعض المتصوفة زعمت أن ذلك بسبب غيرة الله عليها (هكذا) لأنها مالت بقلبها إلى الجنة. وإني لأتساءل: من أين لها أن تعلم حب الله لها وقبوله لعملها، فضلاً عن غيرته سبحانه وتعالى عليها؟ وقد وصف الله تبارك وتعالى المؤمنين بقوله: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون* والذين هم بربهم لا يشركون* والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون:57-61).
الفصل الثالث
التنفير من الطريق الشرعي للهداية
لما كان الدخول في الطريق الصوفي لا يشترط له التوجه إلى الكتاب والسنة، بل إن التوفيق له يأتي أحياناً عن طريق الهاتف، وأحياناً بطرق أخرى سنعرفها فيما بعد إن شاء الله تعالى، فإن القوم منذ نشأتهم رأوا أن علمهم الذي يحصلون عليه -في زعمهم- أفضل من علم الكتاب والسنة، بل رأوا أن علم الكتاب والسنة مشغلة عن طريقهم ومسلكهم، وهذه بعض عباراتهم في ذلك:
أ- قال أبو يزيد البسطامي (مات سنة 261هـ) ناعياً على علماء الشريعة مفاخراً لهم:
"أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون: حدثني فلان، وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات" (الفتوحات المكية ج1-ص365).
ب- وهذا الجنيد يقول: "ما أخذنا التصوف عن القيل والقال" (طبقات السلمي 158).
ج- ويقول أيضاً: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قلبه بهذه الثلاث، وإلا تغيرت حاله: التكسب وطلب الحديث والتزوج، وأحب للصوفي أن لا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه" (قوت القلوب:3/135).
د- وقال أبو سليمان الداراني: "إذا طلب الرجل الحديث، أو سافر في طلب المعاش، أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا" (الفتوحات المكية 1/37).
وهذه أقوال قليلة مما نسب إلى القوم في وجوب ترك علم الشريعة، والانصراف إلى طريقهم الخاص في التلقي والكشف.
الفصل الرابع
القول بالحلول
لما كان طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفاً عند المتصوفة بل كان هذا هو طلب العامة والدهماء في زعمهم فإن المتصوفة جعلوا لهم أهدافاً أخرى غير ذلك وهو أن يكون كل منهم إلهاً ورباً يعلم الغيب كله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى ويتصرف في الكون كله كما يتصرف الله فيحيي، ويميت ويخفض ويرفع، ويعز ويذل..
لقد أصبح الهدف الصوفي هو الوصول إلى مقام النبوة أولاً ثم الترقي حتى يصل الفرد منهم في زعمهم إلى مقام الألوهية والربوبية.
فهذا مثلاً أبو يزيد البسطامي وهو من أئمة القــوم ومقدميهم، توفي سنة 261هـ، فهو من أعلام القرن الثالث في التصوف، وقد مر بك كلامه في شأن الرجل الذي استفتاه في أنه لا يجد في نفسه من علوم القوم شيئاً، فأفتاه بتلك الفتوى العجيبة. يذكر عن نفسه ما يأتي:
"رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبا يزيد! إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا" (اللمع ص461).
وهذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير وتأويل، والاعتذار عنه مشاركة لصاحبه في الباطل الذي يسعى إليه، ولنترك سيد الطائفة في وقته (الجنيد) يفسر كلام صاحبه أبي يزيد البسطامي يقول الجنيد في تفسير الكلام السابق:
"هذا كلام من لم يلبسه حقائق وحدة التفريد في كمال حق التوحيد، فيكون مستغنياً بما ألبسه عن كون ما سأله.. وسؤاله لذلك يدل على أنه مقارب لما هناك، وليس المقارب للمكان بكائن فيه على الإمكان والاستمكان.. وقوله: ألبسني وزيني، وارفعني يدل على حقيقة ما وجده مما هذا مقداره ومكانه، ولم ينل الحظوة إلا بقدر ما استبانه" أ.هـ (اللمع ص461).
وبالطبع لن يستطيع أحد أن يفهم شرح الجنيد لكلام صاحبه أبي يزيد إلا من فهم عقيدة القوم، وعرف محتواها على الحقيقة. وإليك شرح كلامه حتى كأنك تحسه وتراه إن شاء الله.
أقول: حكم الجنيد على صاحبه أبي يزيد بأنه لم يصل بعد إلى كمال حقيقة التفريد (ومعنى التفريد أن يعتقد الصوفي أنه ما تم في الحياة إلا فرد واحد، هو الله، تعددت وجوداته بحسب ما يظهر للناس، ولكن الحق واحد!! ولذلك قال عن أبي يزيد: "هذا كلام من لم يُلبسْهُ (أي الله تعالى) حقائق وحدة التفريد"، أي لم ير غير الله غيراً كما مر من كلام الحلاج.. ولذلك قال عنه أيضاً بأنه لو رأى التفريد على الحقيقة لكان مستغنياً بما ألبسه عن كون ما سأله، فقد سأل البسطامي ربه أن يلبسه أنانيته، ويرفعه إلى أحديته.. ولو كان متحققاً من القول بوحدة الوجود لم يقل ذلك، ولم يطلبه، لأنه سيعلم يقيناً أنه هو الله.. ولذلك رآه الجنيد بسؤاله هذا مقارباً للحقيقة الصوفية النهائية، فقال: "وسؤاله لذلك يدل على أنه مقارب لما هناك.." ثم شرح هذا القول بقوله:
"وقوله ألبسني وزيني وارفعني: يدل على حقيقة ما وجده مما هذا مقداره ومكانه، ولم ينل الحظوة إلا بقدر ما استبانه" أي فهذا مكان أبي يزيد في فهم الحقيقة الصوفية، ولم يصل بعد إلى فهمنا على الحقيقة.
الفصل الخامس
القول بوحدة الوجود
لما بدأ القول بالحلول، وجعل المتصوفة غايتهم من التصوف أن يتشبهوا بصفات الله في زعمهم فيكون أحدهم إلهاً يعلم كل شيء، ويتصرف في كل شيء فإن هذا الحال استمر بهم حتى وصلوا في النهاية إلى القول بوحدة الوجود، وأن كل شيء إنما هو الله وأن الله هو الذي في الكون وحده وليس هناك شيء آخر معه.
ومصطلح وحدة الوجود يعني في العقيدة الصوفية أنه ليس هناك موجود إلا الله فليس غيره في الكون، وما هذه الظواهر التي نراها إلا مظاهر لحقيقة واحدة، هي الحقيقة الإلهية (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)، هذه الحقيقة التي تنوعت وجوداتها ومظاهرها في هذا الكون المشاهد، وليس هذا الكون -في هذه العقيدة الباطلة- إلا الله في زعمهم، تعالى الله عن ذلك.
وقد رأينا كيف عبر الحلاج عن هذه العقيدة بكل صراحة ووضوح فيما نقلناه عنه آنفاً، وكيف عبر عنها الشبلي بشيء من التعمية واللف والدوران، وكيف جاءت في الكلام المنسوب إلى الجنيد في شيء من الحذر والحيطة.
الفصل السادس
طريقة المتصوفة
في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية
مع بداية القرن الثالث الهجري ابتدأ المتصوفة بالتصريح بشيء من علومهم الباطنة فأنكر بعضهم على بعض، فهذا الجنيد يقول للشبلي: "نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ" فرد عليه الشبلي بقوله: "أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري" (التعرف على مذهب التصوف ص145).
وقول الشبلي هذا هو بدايات القول بوحدة الوجود.
ثم ابتدأت جماعة من المتصوفة تصرح بشيء من هذا العلم الباطن الذي لم يكن في حقيقته إلا القول بالحلول، الفناء في ذات الله الذي تقول به العقيدة الهندية البرهمية، والقول بوحدة الوجود، وكان هذا في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع. وهذه طائفة من هذه الأقوال التي ظهرت على أفواه القوم، وكانت تخفي تحتها العقيدة الباطنة التي زعموا أنها في منتهى الكمال والرقي في سلم التعبد الإسلامي.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar